12 - 07 - 2025

ضوء | سيرة على درب المسيرة

ضوء | سيرة على درب المسيرة

كثيرة هي الكتب التي نقرؤها، لكن تكمن أهمية أي كتاب في مدى تأثيره على كل من يقرؤه، وكتاب «سيرة على درب المسيرة» لا يحكي سيرة ذاتية للكاتب المربي الفاضل المناضل محمد دياب الموسى فحسب، بل سيرة شعب بأسره، رحلة نضال وقصة شعب، وفي خضم هذه المعاناة يكتشف القارئ الكثير من الأحداث المفصلية في القضية الفلسطينية.

ففي بدايات الاحتلال الصهيوني عام 1948، دخلت الجيوش العربية أرض فلسطين من أجل تحريرها، ومن عبثية الأقدار أن يكون قائد الجيش الأردني الضابط الإنكليزي غلوب.

كما دخلت الجيوش المصرية، واللبنانية، والسورية، والعراقية، وأصبح الملك عبدالله بن الحسين ملك الأردن آنذاك قائدًا أعلى للجيوش العربية، والفريق طه الهاشمي من العراق قائدًا عامًّا، وقد دخل الجيش المصري غزة، ووصل الجيش العراقي حتى حدود طولكرم، في حين وصل الجيشان السوري واللبناني إلى شمال فلسطين، وكانت المقاومة الفلسطينية في القدس بقيادة الشهيد عبدالقادر الحسيني، وفي منطقة يافا بقيادة الشهيد حسن سلامة. وللأسف - كما يقول الكاتب - دخل الجيش العربي بقلوب متفرقة، فلا مصر تثق بالأردن، ولا الأردن بسورية، ولا سورية بالعراق، ولا أحد يثق في أحد؛ لذلك كانت الهزيمة النكراء.

لكن هل يتعلمون من الدروس؟

كما يكتشف القارئ بعض الوقائع التي لا يعرفها إلا القليل من البشر، لكنها مؤلمة بكل معنى الكلمة، فمثلًا: بعد نكبة ٤٨ اتفق بعض الخونة العرب، أمثال نوري السعيد في العراق، على تهجير العراقيين اليهود من العراق إلى فلسطين قسرًا.

وقد سنحت للكاتب فرصة لزيارة قريته في فلسطين عام 1968، ليوثق الحدث قائلًا: «اصطحبت خالي الحاج أحمد الموسى، الذي كان متلهفًا لرؤية بيته في قرية كفر عانة، وكانت الصدمة له عندما وجد بيته قد هُدم، بعد أن سكنته عائلة يهودية قادمة من العراق، ووجد ساحة البيت تحولت إلى زريبة مواشي، فرفع خالي عصاه غاضبًا، وصاح في وجه اليهودي: «ألا يكفي أنكم سكنتموه 20 عامًا، بل هدمتموه وحولتموه إلى زريبة مواشي!».

ولكن المفاجأة جاءت من اليهودي الذي اتضح أنه كان ضحية من ضحايا الصهيونية، حيث قال لنا: "أنا لست اسرائيليًّا، أنا عراقي، كنتُ في رغد العيش، إلا أن التآمر علينا من قبل البعيد والقريب جعل حالنا يُرثى له، حيث قاموا ببيعنا، وأجبرونا على أن نترك جنتنا في العراق، وقادونا قسرًا للعيش في هذه البيوت المهدمة، وقد مارس الصهاينة التمييز العنصري علينا".

فصاح فيه خالي قائلًا: "عودوا إلى العراق وأريحونا!".

فتقدم اليهودي العراقي من خالي، ووضع يده تحت حزامه متوسلًا: "أرجوك أعدني إلى العراق إن كنت تستطيع، وحلال عليك البيت، فأنا لا أريد شيئًا، فماء العراق عندي أغلى من كل فلسطينكم!"، وأجهش في البكاء. وسمعنا الكلام نفسه من اليهود المصريين واليمنيين.

من المخجل والمؤلم أن نكتشف أن عدد الجيش العربي كله قبل مايو 1948 لم يتجاوز 20 ألف مقاتل، في حين قارب الجيش الصهيوني مئة ألف جندي مُدرب، وبعد مايو 1948 بلغ عدد الوحدات العربية 50 ألفًا مقابل 135 ألف جندي صهيوني.

القائد الوطني عمر علي، قائد الجيش العراقي، دخل جنين، وصدرت له أوامر بالخروج منها، إلا إنه رفض الامتثال لتلك الأوامر، ولما هجم الصهاينة على جنين وجدوا مقاومة باسلة، وأنزل بهم الجيش العراقي شر هزيمة، ولكن بعد ذلك تم استدعاء القائد عمر علي من قبل القيادة العليا، وتمت محاكمته لمخالفته الأوامر!

المذابح والمجازر المروعة التي قام الصهاينة بها، والتي تتالت بانتظام مدروس في 1948 على كل قرية ومدينة، مثل: مذبحة يافا في فبراير، ودير ياسين في أبريل، ومذبحة اللد في يونيو، وكلها تهدف إلى ترويع الشعب الفلسطيني وإجباره على الرحيل، حتى إن البعض نسي رضيعه أو أباه المسن من هول الرعب، ولم يحملوا معهم سوى مفاتيح بيوتهم.

يقول الكاتب: «الصهاينة يخادعون دومًا، ولديهم هدف استراتيجي واضح؛ احتلال فلسطين كاملة كمرحلة أولى، لينطلقوا منها إلى الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، من أجل إحكام السيطرة على العالم كله، والأدوات التي تحقق لهم ذلك: المال والإعلام».

وكم تثبت لنا الأحداث الحالية صدق ما يقوله الكاتب. نعم إن الصهاينة يسيطرون على العالم كله من خلال سيطرتهم على الاقتصاد العالمي، وعلى وسائل الإعلام، إضافة إلى امتلاكهم أقوى ترسانة أسلحة نووية وتقليدية في العالم، وأحدث وسائل التكنولوجيا، لكن ينقصهم الحق، لذلك هم حتمًا زائلون.

الكاتب العربي الفلسطيني محمد دياب موسى يأخذنا في رحلة المعاناة منذ نكبة 1948 في الرحيل الأول، والخروج من أرض الأجداد من كفر عانة.. إلى اللد.. إلى قبيا.. ثم إلى بيرزيت، معاناة لاجئ خرج من أرضه قسرًا، مع الوهم القاتل بتحرير الجيش العربي أرضه.

يقول الكاتب: «كان والدي من الوجهاء، وكان ملجأ للكثير من المحتاجين، ولكن بعد أن ترك أملاكه وبياراته غصبًا عنه أصبح هو المحتاج».

ويأتي الرحيل الثاني من فلسطين إلى الكويت، واستقبالها لهم بالقلب المفتوح عام 1951، وكان عمره آنذاك 18 ربيعًا. ويشرح الكاتب كيف كان الحراك السياسي والاجتماعي بقيادة القوميين العرب آنذاك، واحتضان الكويت للقيادات والكوادر الفلسطينية المتعلمة الذين ردوا الجميل بأكثر منه، ثم الرحيل الثالث إلى الشارقة 1954، ومساهمته هو والكثير من أبناء جيله في تأسيس التعليم النظامي في دولة الإمارات، بمساعدة دولة الكويت الشقيقة، فالرحيل الرابع إلى الكويت مجددًا عام 1957، ثم العودة إلى أرض الوطن فلسطين، أرض المحشر والمنشر، واستقراره في رام الله حتى هزيمة 1967، وللمرة الثانية يترك فلسطين قسرًا ليرحل إلى الشارقة منذ عام 1975 وحتى اللحظة.

الكتاب صدر عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة عام 2008، ومن خلال التجربة الخاصة، يوثق الكاتب تاريخ التربية والتعليم في دولتي الكويت والإمارات.

تجربة تستحق التمعن فيها جيدًا لاستلهام الدروس، وكتاب يستحق الثناء والتقدير لكاتب، كل ما نتمنى له من الله أن يطيل عمره ويمده بالصحة والسلام.

إضاءة:

قرار الحكومة الكويتية بتوقيع عقود مع الدولة الفلسطينية، لاستقطاب آلاف المعلمين من الطاقم التعليمي الفلسطيني للتعليم في الكويت، قرار حكيم جدًّا، وحتمًا سيكون له عظيم الأثر في التعليم.
-------------------------
بقلم: د. أنيسة فخرو

مقالات اخرى للكاتب

ضوء | سيرة على درب المسيرة